حميدتي- من البادية إلى السلطة.. قصة صعود و سقوط مأساوي في السودان.

المؤلف: قبيس أحمد المصطفى09.12.2025
حميدتي- من البادية إلى السلطة.. قصة صعود و سقوط مأساوي في السودان.

إن دراسة الخصائص الذاتية والنفسية للقادة، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، وسواء اتفقنا معهم أو اختلفنا، يظل أمرًا بالغ الأهمية، يكتسب من الضرورة القصوى في سياق سعينا الحثيث لفهم توجهاتهم وأنماط تفكيرهم، الأمر الذي يسهم بقدر كبير في استشراف خطواتهم المستقبلية وكيفية تعاملهم المحتمل مع مختلف المستجدات والتطورات.

وعندما تكون الشخصية قيد الدراسة ذات تأثير جوهري في حياة الناس، سواء كان هذا التأثير إيجابيًا أو سلبيًا، تتضاعف أهمية دراسة هذه الشخصية وفهمها. فعلم النفس الذي يتناول سلوك القادة الفاعلين وسماتهم، يكشف لنا بدقة كيف يمكن للقادة أن يؤثروا على مواقف أتباعهم وسلوكياتهم ومستوى أدائهم.

تلك كانت خلاصة ما توصلت إليه الدراسات الاجتماعية والنفسية حول القادة، ولكننا هنا أمام حالة فريدة، حالة ربما يعجز علم النفس الحديث بكل تطوراته عن استكشاف أعماقها وفهم جوانبها الخفية، حالة شخصية فرضت نفسها بقوة على المشهد السياسي والعسكري السوداني، شخصية بلا تاريخ يذكر ولا خلفيات مقنعة تبرر تصدرها للمشهد بهذا الشكل، وتقوم بأدوار خطيرة بهذا القدر من التدمير.

إنها شخصية قائد قوات الدعم السريع المتمردة، محمد حمدان دقلو، المعروف بـ "حميدتي". ويهدف هذا المقال إلى استكشاف نشأته في بواكير حياته الأولى، ليكشف بوضوح أن شخصيته كانت أقرب ما تكون إلى "المادة الخام"، التي لم يتم صقلها بالتطوير ولم تكتسب قيمتها بالإضافة.

لم يحظ حميدتي بقدر كاف من التعليم، بل كان مجرد إنسان بدوي بسيط، وعلى فطرته اكتسب بعضًا من طبائع البادية، حيث يولد أغلب الناس هناك أذكياء بالفطرة وشجعان بالميلاد، وغالبًا ما تطغى فراستهم على خوفهم، وصدقهم على كذبهم، وحرصهم على الوفاء بالعهود على خيانتها. بهذه الشخصية "الخام" وبطموح جموح نابع من الحرمان، دخل حميدتي المدن والعواصم، ورأى مظاهر الحضارة وأهلها، فاختلطت عليه الأمور وتناسى البادية وأهلها وتخلى عن تقاليدها.

وحول أخلاق أهل البادية، يرى ابن خلدون أنها في الغالب الأعم موطن للفضائل الإنسانية، فيقول: "البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر، وإن البادية أصل العمران، والأمصار مدد لها". ثم يرى في كتابه أن الحضارة "تضعف من يملك أسبابها، ويستسلم لنعيمها، فتفسد الحضارة طبعه، ويستولي عليه الترف، فيفسد ويضمحل". وفي فصول أخرى، يبدأ في ذم بعض جوانب البداوة، والانتقاص من شأنها.

بهذه الخصائص الشخصية والصفات النفسية، دخل الجنرال إلى العالم الجديد بكل تعقيداته وتشعباته التي يصعب على فهمه وإدراكه استيعابها. هناك، حيث تجتمع صفوة المجتمع وأكابر القوم، وحيث القادة العسكريون الحقيقيون الذين تملأ النجوم والأوسمة أكتافهم، وتفتح لهم الأبواب وتصطف لهم طوابير الشرف، وحيث رأى أصحاب رؤوس الأموال والأعمال وخالط الأثرياء واحتك بالعائلات الغنية.

في هذا العالم الجديد، بكل ما فيه من مباهج الحياة ومغرياتها، انزلق الجنرال في دوامة عميقة من الصراع الذاتي العنيف، حوار داخلي مستمر يريد فيه أن يكون كل شيء؛ قائدًا عسكريًا عظيمًا يقف كتفًا بكتف مع قادة أمثال عبود وسوار الذهب والنميري والبشير والبرهان، ورأسماليًا كبيرًا يكدس الثروات ويحتكر المشاريع، ويقيم المصانع وينافس الأثرياء، وزعيمًا سياسيًا ضخمًا يتمتع بقاعدة شعبية تفوق أتباع الترابي وآل المهدي وآل الميرغني.

باختصار، كان يطمح إلى أن يكون كل شيء وبأسرع ما يمكن. وإذا كان قد وجد الطريق ممهدًا للوصول إلى منصب الرجل الثاني في الدولة، فلماذا لا يكون الأول ويصبح رئيسًا للسودان بأكمله، بكل ما يضمه من مثقفين ونخب وعلماء وجامعات، وبتاريخه ونضالاته، بدءًا من مملكة سنار وسلطنة دارفور وصولًا إلى المهدية وجمعية اللواء الأبيض، ومنذ مثقفي نادي الخريجين وحتى لحظة رفع الأزهري والمحجوب لعلم دولة 56 على سارية الاستقلال.

ولم لا، وقد اجتمع له ما لم يجتمع لغيره؛ المال والنفوذ، والسلاح والرجال، وقبل كل هذا وذاك، الوهم الذي وصل به إلى حد الاعتقاد بأن كل شيء في السودان قابل للبيع والشراء، الضمائر والمواقف، الرجال والنساء، طالما أن مناجم الذهب التي يمتلكها لا تنضب، لقد وصل حميدتي إلى نقطة اللاعودة.

هذه الشخصيات المتعددة التي تعيش داخل حميدتي، في هيئة شخصيات متناقضة، هي من أوصلته إلى هذا المصير، وصنعت تلك الشخصية الجديدة "الهجينة" المتغيرة، تتصالح اليوم وتعادي غدًا، وتنضم إلى هذا الحلف وتنشئ حلفًا آخر، تقول شيئًا وتفعل عكسه.

الشخصية الهجينة هذه كانت أسيرة لثلاثية الجهل والمال والطموح، فاندفعت وتعاظمت إلى الحد الذي قادها إلى الانفجار على نفسها. ظن حميدتي أنه قادر على امتلاك السودان بأرضه وشعبه وتاريخه، وأنه سيتوج نفسه أميرًا عليه.

كانت تلك سمات شخصيته المتغطرسة التي عبر عنها بعد يومين من اندلاع الحرب بكل غطرسة الدنيا وصلف المتكبرين حين قال: "البرهان ما عندنا معاه كلام، يسلم بس، وكان ما سلم بنستلمه".

كان حميدتي في أعماقه معجبًا بالنخبة السودانية، بوعيها وتاريخها وأرستقراطيتها وأمجادها وأسلوب حياتها. واجتهد قدر استطاعته في تقليدها، وعندما أدرك أنه لا يملك حظًا من التعليم والثقافة، امتلأ قلبه بالحقد تجاهها، وراح يتعالى بالأوسمة الزائفة على كتفه، ويظهر هذا الحقد في تصريحه الشهير قبيل الحرب مهددًا سكان العاصمة الخرطوم: "لو قامت الحرب، عماراتكم السمحة دي إلا تسكنها الكدايس"، أي القطط.

وكما قال الدكتور مصطفى محمود: "فإن أشق الحروب هي حرب الإنسان مع نفسه"، وهذا بالتحديد ما فعله حميدتي بنفسه، من النعيم إلى الجحيم، ومن سعة الأفق إلى الضيق، ومن الاستحواذ على كل شيء إلى فقدان كل شيء.

ومن العجيب أن مباهج المدن ومغرياتها لم تنسِه البادية فحسب، بل أنسته أيضًا قيمها التي تربى عليها من مكارم الأخلاق، حين خاض حربه بأسوأ الأساليب اللاأخلاقية، وكان حميدتي ومرتزقته أبعد ما يكونون عن صفات الرجولة والفروسية، حيث خاضوا حربهم بأقصى درجات الجبن والخسة، حرب الاستباحة لأملاك الناس والتعدي على حقوقهم وحرماتهم، هكذا كانت حرب الجنجويد من النوع البشع الغارق في الرذائل.

الآن، أكملت حرب الجنجويد على السودانيين عامها الثاني، وهي تتقدم نحو نهايتها، نحو طردهم وإنهاء أسطورة حميدتي، الذي لم يتمكن من الاستيلاء على السلطة ولا من حكم السودان، بل انتهى به الأمر إلى مصير مجهول، بين هارب متخفٍ من ميدان المعركة وميت لا وجود له إلا من خلال مقاطع فيديو قصيرة، يعتقد معظم السودانيين بسخرية أنها مفبركة ومن إنتاج الذكاء الاصطناعي، بهدف خداع جنوده وإيهامهم بأن قائدهم معهم وبينهم في ساحات القتال يخوض المعارك.

لم يحقق حميدتي أي إنجاز، ولم ينجح في أي شيء سوى الهزيمة واكتساب كراهية السودانيين ولعناتهم التي ستلاحقه في حياته وبعد مماته، فمشاعر الغضب التي يكنونها له لن تغفر له الآلام والبؤس الذي تسبب فيه. لم يتفق السودانيون على شيء مثل اتفاقهم على كراهية حميدتي وقواته، لدرجة أن هذا الشعور تحول إلى مزاج شعبي عام لن يمحوه الزمن.

انتهى حميدتي إلى مجرد ظاهرة صوتية، تظهر من حين لآخر عند كل هزيمة كبيرة يتكبدها على يد الجيش السوداني، ويبدو دائمًا في حالة مزاجية سيئة، ويوجه الشتائم والسباب للجميع بطريقة هستيرية متشنجة، ثم يعد من تبقى معه من المرتزقة بنصر قريب، ولكنه لا يتحقق أبدًا.

ولأن حميدتي يفتقر إلى رؤية واضحة المعالم، سواء على الصعيد السياسي أو الفكري، باستثناء تلك الخطابات الارتجالية التي تندرج تحت باب الكلام العامي الذي يقال أمام الجماهير وفقًا لما يرغبون في سماعه، والذي يراه الناس عادةً كمجرد فاصل درامي يتقمص فيه حميدتي دور البطل المهرج، فقد كان وعاء القائد خاليًا من أي مشروع متكامل يتناسب مع طموحاته الجامحة ورغبته العارمة في حكم السودان.

المشروع الوحيد الذي كان لدى حميدتي هو مشروعه الشخصي القائم على الطموح الجامح، وحتى هذا المشروع كان هلاميًا وغير واضح، بلا أسس ثابتة أو هوية محددة تمكنه من التنفيذ، وبالتالي، تلاشى مشروعه بتلاشي وجوده كقائد، وانتهى كل شيء، الأحلام والطموحات والقوات التي كان يُزعم أنها لا تقهر ولا تخسر، ولم يتبق سوى جيوب منعزلة ومهزومة من الميليشيات، تنتظر مصيرها المحتوم بالموت والفناء.

كان هذا هو مشروع حميدتي الضبابي، الذي لم يستقر على وجهة محددة، ولم يحظ بمؤيدين حقيقيين، باستثناء أولئك الذين تم شراؤهم ببعض المال الزهيد، وقد انهار هذا المشروع بسقوط صاحبه، وتم نبذ أتباعه من قبل المجتمع السوداني السليم.

انتهى حميدتي، وانتهت قواته، وبقي السودان، رغم ما يعانيه من جروح عميقة وحرائق ورماد، إلا أنه سينهض ويحلق في الفضاءات من جديد، كما يفعل طائر الفينيق الأسطوري، معلنًا عودته إلى الحياة مرة أخرى، فإرادة الشعوب الحرة لا تنكسر، وعزيمتها القوية لا تلين أبدًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة